سيّدنا يونس عليه السّلام
هو يونس بن متّى، ويتّصل نسبه بِبنيامين، وهو أخو يوسف عليه السلام من أبيه وأمّه. يقول الله تبارك وتعالى: ” وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ “، سورة الصّافات ، وقد ذُكر اسمهُ في القرآن الكريم أربع مرّات في سورة النّساء، والأنعام، ويونس، والصّافات، وذُكر بوصفه ولقبه “ذا النّون” و”صاحبُ الحوت” في موضعين من سورتيّ الأنبياء والقلم. قال الله تعالى: ” وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ “، سورة الأنبياء ، وقال تعالى:” فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ* لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ “، سورة القلم .
دعوة سيدنا يونس
أرسل الله سبحانه و تعالى سيّدنا يونس إلى أهل نينوى في أرض الموصل بالعراق ليدعوهم إلى عبادة الله وحده، وكان عددهم أكثر من مئة ألف، فكذّبوه، وتمرّدوا، وأصرّوا على كفرهم، ولم يستجيبوا لدعوته، وبقي يونس عليه الصّلاة والسّلام بينهم صابراً على الأذى، يُذكّرهم ويعظهم، ولمّا أصرّوا على كفرهم أصابه اليأس منهم، وخرج من بين أظهرهم مُغاضباً قبل أن يأمره الله تعالى بالخروج، وظنّ أنّ الله تعالى لن يؤاخذه على هذا. ولمّا خرج عليه السّلام وهو يائسٌ منهم، تغشّاهم صباحاً العذاب، وصار قريباً جداً منهم، ولمّا أيقنوا بالهلاك طلبوا يونس عليه السلام فلم يجدوه، فألهمهم الله التّوبة والإنابة فأخلصوا النّية في ذلك، وقصدوا شيخاً وقالوا له: قد نزل بنا ما ترى، فماذا نفعل؟ فقال لهم: آمنوا بالله وتوبوا، فآمنوا بالله وبرسوله يونس عليه السّلام، وكانوا قد خرجوا من القرية، ولبسوا المُسوح وهي ثيابٌ من الشّعر الغليظ، وحثّوا على رؤوسهم الرّماد، ثمّ رفعوا أصواتهم في الدّعاء إلى الله، وتضرّعوا، وكانت ساعةً عظيمةً هائلةً، وعجلوا إلى الله بالتّوبة الصّادقة، وردّوا المظالم جميعًا، فاستجاب الله منهم، وكشف عنهم بقدرته ورحمته العذاب الشّديد الذي كان قد دار على رؤوسهم.
قصّة سيدنا يونس في بطن الحوت
ولمّا خرج سيدنا يونس غضباناً من قومه، سار حتى وصل شاطئ البحر، فوجد قوماً في سفينةٍ في البحر، فطلب من أهلها أن يركبَ معهم، فتوسّموا فيه خيراً، وأركبوه معهم، فلمّا توسّطوا البحر جاءت رياحٌ شديدةٌ، وهاج البحر بهم، واضطرب بشدّةٍ حتّى وجلت القلوب، فقال من في السفينة:” إنّ فينا صاحب ذنبٍ “، فأسهموا واقترعوا فيما بينهم على أنّ من يقع عليه السهم يُلقوه في البحر، فلمّا اقترعوا وقع السّهم على نبيّ الله يونس، ولكنهم لم يسمحوا بإلقائه في البحر لما توسّموه من صلاحهِ، فأعادوا القرعة ثانيةً فوقعت عليه أيضاً، فشمَّر يونس عليه السّلام ليلقي بنفسه في البحر، فأبوا ذلك لمّا عرفوا منه خيراً، ثمّ أعادوا القرعة ثالثةً، فوقعت عليه أيضاً، فما كان من يونس عليه السّلام إلا أن ألقى بنفسه في البحر، لأنّه كان يعتقد أنّه لا يُصيبه هلاكٌ أو غرق.
وعندما ألقى بنفسه وكّل الله تبارك وتعالى به حوتاً كبيراً، فالتقمه وابتلعه، ابتلاءً له على تركه قومه الذين أغضبوه دون إذن، فدخل نبي الله يونس عليه السّلام إلى جوف الحوت تحفُّهُ عنايةُ الله، حتى صار وهو في بطن الحوت في ظُلمات حالكاتٍ ثلاثٍ، وهي ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت. وسار الحوت وفي جوفه يونس عليه السّلام، وانتهى بهِ إلى أعماق المياه في البحر، وهناك سمع يونس عليه الصّلاة والسّلام حِسّاً وأصواتاً غريبةً، فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت: إنَّ هذا تسبيح دوابّ البحر، فما كان من نبيّ الله يونس عليه السّلام وهو في بطن الحوت، وفي تلك الظلمات المُدلهمّة إلّا أن أخذ يدعو الله عز وجل، ويستغفرهُ، ويسبّحه تبارك وتعالى قائلاً ما ورد عنه في القرآن: ” وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ “، سورة الأنبياء .
وسمعت ملائكة السّماء تسبيحه لله عز وجل، وسألوا الله تعالى أن يُفرّج الضّيق عنه، فاستجاب الله تعالى دعاءهُ، ونجّاه من الغمّ، والكرب، والضّيق الذي وقع فيه، لأنّه كان من المُسبّحين في بطن الحوت ومن الذاكرين لله، وأمر الله تعالى الحوت أن يُلقيه في البرّ، فألقاهُ الحوت في العراء، وهو المكان القفر الذي ليس فيه أشجارٌ، والأرض التي لا يُتوارى فيه بشجرٍ ولا بغيره، و كان يونس عليه السلام مريضاً ضعيفاً، وقد مكث نبي الله يونس عليه الصّلاة والسّلام في بطن الحوتِ ثلاثة أيّام، وقيل: سبعة أيّام، وقيل غير ذلك. ولولا أنّه سبّح الله وهو في بطن الحوت، وقال ما قال من التّهليل، للبث في بطن الحُوت إلى يوم القيامة، ولبُعث من جوف الحوت، قال الله تبارك وتعالى:” وإنَّ يونسَ لَمِنَ المُرسلينَ * إذْ أبَقَ إلى الفُلكِ المَشحون * فساهَمَ فكانَ مِنَ المُدحضين * فالتقمهُ الحوتُ وهُوَ مُليمٌ * فلولا أنَّهُ كانَ مِنَ المُسبِّحين * للَبِثَ في بطنِهِ إلى يومٍ يُبعثون * فنبذناهُ بالعراءِ وهُوَ سقيمٌ * وأنبتنا عليهِ شجرةً مِن يقطين * وأرسلناهُ إلى مائةِ ألفٍ أو يزيدونَ * فآمنوا فمَتَّعناهُم إلى حين “، سورة الصافات .
دعاء سيدنا يونس
” لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ “
بهذا الدّعاء ناجى سيّدنا يونس من بطن الحوت ربّه في الظلمات ، وكان هذا الدعاء سبباً في نجاة سيّدنا يونس من هذا الغمّ، يقول تعالى: ” فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ “، سورة الأنبياء ، وفي الأثر عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، عن النبّي عليه الصّلاة والسّلام قال: ” دعوة ذي النّون إذ هو في بطن الحوت ” لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين “، لم يدعُ بها مسلم ربّه في شيءٍ قطّ إلا استجاب له”، وقال صلّى الله عليه وسلم:” إنّي لأعلمُ كلمةً لا يقولها مكروبٌ إلا فرّج الله عنه، كلمة أخي يونس صلّى الله عليه وسلم ” فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ” “.
وهذه الجملة العظيمة فيها اعترافين كبيرين، الأوّل وهو الأعظم: الاعتراف بألوهيّة الله تعالى ووحدانيّته، والثّاني: الاعتراف بالذّنب، والتّقصير، والخطأ، فالأوّل يدلّ على تمام العبودية لله ربّ العالمين، والثّاني يدلّ على قوة الإيمان والرّغبة في تطبيق العبودية تطبيقاً صحيحاً بالتّنازل عن الغرور، والتوقف عن التّمادي في العصيان، والرغبة بل العزم في الطّاعة، والإخلاص، والاستقامة لله تعالى. إنّ البدء بتوحيد الله تعالى في الدّعاء وتنزيهه فيه اعترافٌ بذلك، وفيه ردعٌ للنّفس العاصية أو الطّاغية، و تذكيرٌ لها أنّها مهما تمادت وتعجرفت فإنّ هناك من خلقها، ومن سُيحاسبها، ومن هو قادرٌ عليها، فيجعلها ذلك تتراجع، وتخاف، وتتأدّب، وتمتنع عن الحرام، ثمّ يكون الاعتراف بالخطأ نتيجةً حتميّةً للشعور بعظمة الله تعالى، وقدرته، واليقين بذلك.