هناك ظاهرة لا يمكن انكارها وتحتاج الى دراسة موضوعية تتعلق بالمواطن العراقي من جنوب العراق الى جبال شماله مروراً بصحراء وسطه الا وهي قضية الانتماء. مشاكل الانتماء لا تقتصر على المواطن العراقي٫ وانما هي ظاهرة عالمية وموجودة في جميع المجتمعات٫ ولكن في عين الوقت يمكن القول بانها ربما أكثر تعقيداً في المجتمع العراقي مقارنة ببقية اقطار العالم العربي او الشرق الأوسط.
الحديث عن الانتماء يبدأ أولا بتعريف الانتماء٫ ويمكن القول بانه من صنفين:
الصنف الأول هو الانتماء الناضج Mature Affiliation والمقصود به انتماء الانسان لمجموعة من البشر يشاركهم بأفكاره ويستهدف من خلال هذا الانتماء الشعور بالطمأنينة وتجاوز ازماته البيئية وعقده النفسية. هذا الانتماء الناضج يتميز بظاهرة واحدة فقط وهو ان الانسان يشارك المجموعة بمشاكله وأفكاره ولكنه لوحده يتحمل مسؤولية سلوكه ويحل مشاكله بنفسه.
الصنف الثاني هو الانتماء الفج الغير ناضجImmature Affiliation الذي يتميز بانتماء الانسان لمجموعة تلبي احتياجاته الخاصة بدون الاستناد الى معايير أخلاقية او إنسانية مقبولة.
الانتماء الناضج عملية صحية٫ وفي عالم الصحة النفسية هناك توجه عام لتشجيع الانسان الانضمام الى مجموعات بشرية صغيرة كانت او كبيرة تشاركه مشاكله وازماته وتساعده على حل مشاكله بنفسه والوصول الى مستوى حضاري يستوعب فيه بانه انسان حر يتحمل المسؤولية تجاه نفسه أولا والمجتمع الذي يعيش فيه. هذه المجموعات كثيرة الملاحظة في ضحايا العنف الاسري٫ الإدمان٫ وغيرها. اليوم وبفضل انتشار اتصال البشر عبر الانترنت هناك الانتماء الى مجموعة رعاية البيئة والحديث عن نجدة الكوكب(الأرض)Saving the Planet.
إقرأ أيضا:افضل مواقع التسوق الالكتروني للازياء في الشرق الاوسطاما الانتماء الفج الغير ناضج فلا يزال موجوداً في العديد من المجتمعات وربما أكثر ملاحظة في المجتمعات الشرقية مقارنة بالمجتمعات الغربية٫ ويتم تفسيره هذه الأيام بقضية الزواج من الأقارب. منذ أكثر من ١٥٠٠ عام تم تحريم الزواج من أبناء العم والخال في العالم الغربي في حين ان هذه الظاهرة استمرت كما هي في العالم الشرقي بغض النظر عن انتمائهم الديني. الرجل الغربي يضع ابنة العم او الخال في مقام الأخت ويتعجب ان اقترح أحد عليه الزواج منها. اما في العالم الشرقي فان الامر عكس ذلك ويتوقع الاهل ان يفكر الرجل بابنة عمه قبل غيرها من الاناث ان فكر في الزواج. وبما لعب هذا العامل الاجتماعي دوره في قوة الروابط العائلية٫ العشائرية٫ والقبلية.
الانتماء العراقي
منذ قيام الدولة العراقية بعد سقوط الدولة العثمانية والى اليوم يمكن ملاحظة معضلة الانتماء في المجتمع العراقي الذي يقارب تعداد سكانه ٤٠ مليون نسمة. هناك تعدد الملل والطوائف من عرقية ودينية وطائفية٫ وهذا التنوع Diversity بحد ذاته ظاهرة إيجابية٫ وفي حضارات اليوم يعكس تطور المجتمع وتسامحه وقابليته على تطوير مؤسساته. ساهمت جميع الطوائف العراقية في بناء العراق الحديث رغم جميع المحن السياسية والنزاعات السياسية٫ ويمكن القول بان هذا التفاعل المتنوع لعب دوره في التطور الثقافي للمواطن العراقي واستعداده لقبول أفكار جديدة ومواجهة تحديات مختلفة.
إقرأ أيضا:تحقيق صحفي عن الحجابولكن التنوع ايضاً قد يدفع المواطن الى البحث عن الانتماء الفج غير الناضج عند شعوره بالتهديد والضعف في مواجهة التحديات. ارتفعت قوة الانتماء القبلي والعشائري مع قيام دولة عراقية حديثة بوصاية بريطانية منذ ١٩٢٠ حيث شجعت السلطات هذا الانتماء مقابل القبول بدولة حديثة يتزعمها الملك فيصل الاول الذي لا علاقة له اصلاً بأي جزء من أجزاء العراق يومها. استمرت مظاهر الانتماء القبلي والعشائري لفترة طويلة ولم تتخلص منها اية حكومة عراقية بل ولم تخطط يوماً ما التخلص منها.
ثم هناك انتماء ديني طائفي يشمل جميع الأديان والطوائف شديد القسوة والدمار لعب دوره في إدارة الدولة العراقية منذ يوم تأسيسه الى اليوم. الانتماء الإسلامي الطائفي في العراق حقيقة لا يمكن انكارها٫ واشتد في القرن الثامن عشر مع تفوق الحركة الأصولية الشيعية في كربلاء على التبار الاخباري٫ وتزامن ذلك مع ولادة الحركة الوهابية السنية والحركة الصوفية. هذه التيارات الإسلامية الحديثة(الشيعية و الوهابية دون الصوفية) ساهمت في السيطرة على زمام الأمور في العالم العربي مع قيام الثورة الإسلامية الإيرانية٫ وبسبب التقسيم الطائفي في العراق أصبح البلد ساحة صراعات وطنية وإقليمية. لم يساهم أحد من قادة العراق بترويض الانقسام الطائفي بجدية عبر تاريخه السياسي الحديث٫ ولعب دوره في صراعات سياسية واجتماعية منذ عام ١٩٥٨ الى اليوم. ارتفع تأثير هذا الانتماء على نفسية المواطن العراقي منذ الستينيات الى اليوم٫ ولعب دوره الكبير في الحرب الاهلية العراقية منذ الاحتلال الأمريكي للعراق مع بداية هذه الالفية.
إقرأ أيضا:تطبيق تحدي المشي – الحافز لنشاط بدني أفضليتحدث الكثير من اهل العراق وباشتياق عن العهد الملكي قبل انقلاب ١٤ تموز ١٩٥٨٫ ولكن الحقيقة الواضحة بان العهد الملكي أخفق في سد احتياجات المواطن العراقي٫ وساهم في ترسيخ الانتماء العشائري. من جهة أخرى انفتح اهل العراق على تيارات العالم السياسية المختلفة٫ وبدأ المواطن العراقي البحث عن انتماء عالمي جديد يتمثل في الشيوعية العالمية٫ وانتماء إقليمي تمثل في حزب البعث. هذه الحركات السياسية والانتماء لها فشلت هي الأخرى في ترويض الانتماء الطائفي والعشائري. لا يستطيع الانسان تجاوز عقده النفسية المترسبة فيه الصادرة عن تفاعله مع الكائنات الحية في بيئته منذ الطفولة. يظهر ذلك واضحاً للعيان مع دراسة طغيان الانتساب العشائري والقبلي على حركة حزب البعث منذ عام ١٩٦٨ الى بداية الاحتلال الأمريكي عام ٢٠٠٣.
انهيار الدولة العراقية وتدمير هيكلها لم ينجده استحداث نظام ديمقراطي تم فرضه من قبل الولايات المتحدة الامريكية٫ التي كانت ولا تزال تتصور بان الديمقراطية هي الحل الأول والاخير لمشاكل بلدان العالم الثالث ومنها العراق. الديمقراطية لم تكن ولا تزال غير قادرة على تغيير الانتماء العراقي من انتماء غير ناضج الى انتماء حضاري ناضج. ولدت تيارات سياسية جديدة تستند برمتها على الانتماء الطائفي والقبلي والعشائري في مجتمع يتميز بعدم تجانسه على اقل تقدير٫ ويمكن القول بان التجربة الديمقراطية في العراق لم تنجح الى اليوم.
لا تزال عقدة الانتماء الطائفي تطغي على العراق٫ وزواج الطائفية من الديمقراطية مصيره الفشل. التجربة اللبنانية الديمقراطية لم تنجح في سد احتياجات المواطن اللبناني٫ وكانت وراء قيام أكثر من حرب أهلية. الزواج الطائفي من الديمقراطية في العراق حديث العهد وأكثر تعقيداً من الزواج اللبناني٫ ولكنه الى اليوم لم ينجح في سد احتياجات المواطن العراقي. من الصعب كذلك ان تفقه ما هي السلطة التشريعية في العراق٫ واستعمال المرجعية الشيعية في النجف الاشرف كسلطة تشريعية عليا من قبل رجال السياسة يتعارض مع الفكر الديمقراطي. المفاهيم الطائفية مفاهيم مزيفة قلما تسد احتياجات عموم الشعب٫ وان فعلت ذلك فهو لأجل معين.
ثم هناك الانتماء الطبقي في العراق٫ وربما التركيبة الطبقية فيه لا تختلف عن بقية اقطار العالم العربي والعالم الغربي. الانسان عموماً لا يتمرد على التقسيم الطبقي في مجتمع يسنح الفرصة للطبقات الغير ثرية بالتحرك الى الأعلى مهنياً وسياسياً واجتماعياً ضمن تنافس حر وسليم بين مختلف المواطنين. هذه الظاهرة أصبحت أكثر ارتباكاً مع الفساد الاداري والتعليمي في العراق. منذ عشرات السنين والحكومة العراقية تميز بين أقارب ضحاياً المشاركين في مختلف الحروب والصراعات في نتائج الامتحانات ودخولهم التعليم الجامعي وكذلك الحصول على مناصب وظيفية في الدولة. هذا التمييز الطبقي الذي تفاعل مع عوامل الانتماء الاخرى٫ ظاهرة قد تؤدي الى ضعف مؤسسات الدولة٫ وشعور العديد من المواطنين بالنفور منها٫ وبالتالي تفاقم الفساد الحكومي.
السلطة التنفيذية في العراق حالياً تتميز بتركيبٍ يعكس ظاهرة الانتماء الغير ناضج في تقسيم مقاعد السلطة والحصص البرلمانية بين السنة والشيعة والاكراد وربما بقية الأقليات العرقية والدينية. هذا التقسيم الطائفي لا يسد احتياجات المواطن ونتيجته دوماً وصول من لا يملك الكفاءة لإدارة شؤون الدولة.
العوامل التي تم التطرق اليها أعلاه تعكس هشاشة الحكومات العراقية منذ العهد الملكي الى اليوم٫ ولا يمكن القول بانها ظاهرة تميز الحكومة الحالية. وعي الانسان العراقي هذه الأيام لا يختلف عن وعي أي انسان اخر على كوكب الأرض بسبب حرية المعلومات وانتشار استعمال الانترنت٫ والاطلاع على أحوال البشر في العالم المتحضر٫ ويدرك بان حكومته عاجزة عن سد احتياجاته٫ ولا يجد امامه سوى التعبير عن سخطه.
الانتماء والشخصية
الحديث عن تأثير الانتماء على الصفات الشخصية للفرد ليس دقيقاً بكل معنى الكلمة٫ واحياناً لا يخلوا من استنتاجات غير موضوعية. كذلك الحديث عن شخصية المواطن العراقي لا يعني تهميش هذه الشخصية ونعتها بصفات سلبية. العراقي انسان حاله حال أي انسان اخر في أي بقعة من بقاع الكوكب.
الغاية من هذا المقال هو مناقشة عملية الانتماء وتأثيرها على المواطن العراقي. الانتماء كما تمت الإشارة اليه٫ بحد ذاته عملية نفسية ناضجة يستهدف الانسان من خلالها حل مشاكله بنفسه. الانتماء احياناً٫ وفي الكثير من المجتمعات٫ قد يكون عملية غير ناضجة وبالتالي توثر على سلوك الفرد مع من حوله. الانتماء الفج الغير ناضج يدفع الانسان الى اكتساب صفات نرجسية تحفزه الى رعاية مصالحه اولاً٫ ورعاية مصالحه الشخصية بدوره يدفعه الى تعزيز عملية الانتماء بحد ذاتها عن طريق تحيزه المعرفي والعاطفي لمن ينتمي إليهم. مسار النرجسية في إطار الانتماء الغير ناضج يتحول الى شعور بالعظمة Grandiosity وهذا الشعور بالعظمة يؤدي الى تحقير وتهميش من هو خارج مجموعة الانتماء. من جهة أخرى هذا الشعور بالعظمة قد يواجه صعوبات تمنع الفرد من تحقيق طموحاته النرجسية٫ وذلك بدوره يدفعه نحو الوصول الى هاوية العظمة Grandiosity Abyss ويشعر بالظلم ويتقمص دور الضحية. هذا الدور الاخير ينتج مشاعر غضب وحقد ونفور من المجموعات الاخرى. يمكن القاء الضوء على هذه الظاهرة في المجتمع العراقي حيث تلاحظ الشعور بالتفوق والعظمة من قبل مجموعة٫ صغيرة كانت او كبيرة٬ وتهميشها للمجموعات الأخرى.
رغم زخم عملية الانتماء الغير ناضج وتأثيرها السلبي على الشخصية٫ ولكن الانسان العراقي وغيره يتحلى بالفضول لتوسيع دائرة معرفته. تطورت معاهد التعليم عالمياً وبسرعة منذ القرن الثامن عشر٫ ورغم ضعف ترجمة الادبيات من اللغات الأجنبية الى العربية مقارنة ببقية اللغات العالمية٫ فان حظ الانسان العراقي من التعليم كان جيداً. يضاف الى ذلك تطور الادب العربي في مصر ٬التي كان اتصالها بالحضارة الغربية أكثر توسعاً وبالتالي انتشرت الثقافة العالمية بصورة غير مباشرة الى كافة اقطار العالم العربي ومنها العراق. ثقافة مجموعات دينية وطائفية وعرقية تتميز بجمودها احياناً وبالتالي اطلاع الانسان على ثقافة جديدة قد يؤدي الى الشعور بتنافر معرفي لا يتم حسمه الا بتمسك الانسان بثقافة المجموعة وزيادة تمسكه بها او التمرد عليها.
التمرد الناتج عن التنافر المعرفي قد يتوجه صوب المجموعة التي ينتمي اليها الانسان المتمرد. تتوسع دائرة الهدف احياناً لتشمل الوطن الذي يعيش فيه الانسان٫ ويبدأ بالتوجه صوب بلدٍ اخر يلبي احتياجاته الفكرية والعاطفية والمادية. تعلق الانسان بأرضه عملية غير مضمونة٫ والوطن الذي لا يلبي احتياجات المواطن نتيجته عدم اخلاص الانسان في عمله والتمرد على الوطن نفسه. ثروة الشعوب في مواطنيها و بدون اخلاصهم في عملهم لا يبقى منه الا اسمه و خريطته و علم يرفرف في مناسبات و حفلات داخل او خارج الوطن.