عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيرا أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم ضيفه رواه البخاري ومسلم .
هذا الحديث خرجاه من طرق عن أبي هريرة ، وفي بعض ألفاظها : ” فلا يؤذي جاره ” وفي بعض ألفاظها : ” فليحسن قرى ضيفه ” وفي بعضها : ” فليصل رحمه ” بدل ذكر الجار .
وخرجاه أيضا بمعناه من حديث أبي شريح الخزاعي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وابن مسعود ، [ ص: 333 ] وعبد الله بن عمرو ، وأبي أيوب الأنصاري وابن عباس وغيرهم من الصحابة .
فقوله صلى الله عليه وسلم : ” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ” فليفعل كذا وكذا ، يدل على أن هذه الخصال من خصال الإيمان ، وقد سبق أن الأعمال تدخل في الإيمان ، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالصبر والسماحة ، قال الحسن : المراد : الصبر عن المعاصي ، والسماحة بالطاعة .
وأعمال الإيمان تارة تتعلق بحقوق الله ، كأداء الواجبات وترك المحرمات ، ومن ذلك قول الخير ، والصمت عن غيره .
إقرأ أيضا:أدعية عن الوالدينوتارة تتعلق بحقوق عباده كإكرام الضيف ، وإكرام الجار ، والكف عن أذاه ، فهذه ثلاثة أشياء يؤمر بها المؤمن : أحدهما قول الخير والصمت عما سواه ، وقد روى الطبراني من حديث أسود بن أصرم المحاربي ، قال : قلت : يا رسول الله أوصني ، قال : ” هل تملك لسانك ؟ ” قلت : ما أملك إذا لم أملك لساني ؟ قال : ” فهل تملك يدك ؟ ” قلت : فما أملك إذا لم أملك يدي ؟ قال : ” فلا تقل بلسانك إلا معروفا ، ولا تبسط يدك إلا إلى خير ” . [ ص: 334 ] وقد ورد أن استقامة اللسان من خصال الإيمان ، كما في ” المسند ” عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه .
وخرج الطبراني من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه وخرج الطبراني من حديث معاذ بن جبل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنك لن تزال سالما ما سكت ، فإذا تكلمت ، كتب لك أو عليك . وفي ” مسند ” الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من صمت نجا .
إقرأ أيضا:دعاء تزكية النفسوفي ” الصحيحين ” عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها ، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب .
وخرج الإمام أحمد ، والترمذي من حديث أبي هريرة ، ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار . [ ص: 335 ] وفي ” صحيح البخاري ” ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم .
وخرج الإمام أحمد من حديث سليمان بن سحيم ، عن أمه ، قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ” إن الرجل ليدنو من الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيتكلم بالكلمة ، فيتباعد بها أبعد من صنعاء ” .
وخرج الإمام أحمد ، والترمذي والنسائي من حديث بلال بن الحارث قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه ، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، فيكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه .
إقرأ أيضا:دعاء الفجر مكتوب قبل وبعد اذان الفجروقد ذكرنا فيما سبق حديث أم حبيبة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كلام ابن آدم عليه لا له ، إلا الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وذكر الله عز وجل .
فقوله صلى الله عليه وسلم : فليقل خيرا أو ليصمت أمر بقول الخير ، وبالصمت عما عداه ، وهذا يدل على أنه ليس هناك كلام يستوي قوله والصمت عنه ، بل إما [ ص: 336 ] أن يكون خيرا ، فيكون مأمورا بقوله ، وإما أن يكون غير خير ، فيكون مأمورا بالصمت عنه ، وحديث معاذ وأم حبيبة يدلان على هذا .
وخرج ابن أبي الدنيا من حديث معاذ بن جبل ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : يا معاذ ثكلتك أمك وهل تقول شيئا إلا وهو لك أو عليك .
وقد قال الله تعالى : إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ ق : 17 – 18 ] وقد أجمع السلف الصالح على أن الذي عن يمينه يكتب الحسنات ، والذي عن شماله يكتب السيئات ، وقد روي ذلك مرفوعا من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف . وفي ” الصحيح ” عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان أحدكم يصلي ، فإنه يناجي ربه والملك عن يمينه .
وروي من حديث حذيفة مرفوعا : ” إن عن يمينه كاتب الحسنات ” .
واختلفوا : هل يكتب كل ما يتكلم به ، أو لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب ؟ على قولين مشهورين . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يكتب كل ما [ ص: 337 ] تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله : أكلت وشربت ذهبت وجئت ، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر ما كان فيه من خير أو شر ، وألقى سائره ، فذلك قوله تعالى : يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب [ الرعد : 39 ] .
وعن يحيى بن أبي كثير ، قال : ركب رجل الحمار ، فعثر به ، فقال : تعس الحمار ، فقال صاحب اليمين : ما هي حسنة أكتبها ، وقال صاحب الشمال : ما هي سيئة فأكتبها ، فأوحى الله إلى صاحب الشمال : ما ترك صاحب اليمين من شيء ، فاكتبه ، فأثبت في السيئات ” تعس الحمار ” .
وظاهر هذا أن ما ليس بحسنة ، فهو سيئة ، وإن كان لا يعاقب عليها ، فإن بعض السيئات قد لا يعاقب عليها ، وقد تقع مكفرة باجتناب الكبائر ، ولكن زمانها قد خسره صاحبها حيث ذهبت باطلا ، فيحصل له بذلك حسرة في القيامة وأسف عليه ، وهو نوع عقوبة .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه ، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار ، وكان لهم حسرة .
وخرجه الترمذي ولفظه : ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ، ولم [ ص: 338 ] يصلوا على نبيهم ، إلا كان عليهم ترة ، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم .
وفي رواية لأبي داود والنسائي : من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة ، ومن اضطجع مضطجعا لم يذكر الله فيه ، كانت عليه من الله ترة زاد النسائي : ومن قام مقاما لم يذكر الله فيه ، كانت عليه من الله ترة وخرج أيضا من حديث أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من قوم يجلسون مجلسا لا يذكرون الله فيه إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة ، وإن دخلوا الجنة .
وقال مجاهد : ما جلس قوم مجلسا ، فتفرقوا قبل أن يذكروا الله ، إلا تفرقوا عن أنتن من ريح الجيفة ، وكان مجلسهم يشهد عليهم بغفلتهم ، وما جلس قوم مجلسا ، فذكروا الله قبل أن يتفرقوا ، إلا أن يتفرقوا عن أطيب من ريح المسك ، وكان مجلسهم يشهد لهم بذكرهم .
وقال بعض السلف : يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره ، فكل ساعة لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات .
وخرجه الطبراني من حديث عائشة مرفوعا : ” ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها بخير ، إلا حسر عندها يوم القيامة ” .
[ ص: 339 ] فمن هنا يعلم أن ما ليس بخير من الكلام ، فالسكوت عنه أفضل من التكلم به ، اللهم إلا ما تدعو إليه الحاجة مما لابد منه . وقد روي عن ابن مسعود قال : إياكم وفضول الكلام ، حسب امرئ ما بلغ حاجته . وعن النخعي قال : يهلك الناس في فضول المال والكلام .
وأيضا قال فإن الإكثار من الكلام الذي لا حاجة إليه يوجب قساوة القلب كما في ” الترمذي ” من حديث ابن عمر مرفوعا : ” لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله يقسي القلب ، وإن أبعد الناس عن الله القلب القاسي ” .
وقال عمر : من كثر كلامه ، كثر سقطه ، ومن كثر سقطه ، كثرت ذنوبه ، ومن كثرت ذنوبه ، كانت النار أولى به وخرجه العقيلي من حديث ابن عمر [ ص: 340 ] مرفوعا بإسناد ضعيف .
وقال محمد بن عجلان : إنما الكلام أربعة : أن تذكر الله ، وتقرأ القرآن ، وتسأل عن علم فتخبر به ، أو تكلم فيما يعنيك من أمر دنياك .
وقال رجل لسلمان : أوصني ، قال : لا تكلم ، قال : ما يستطيع من عاش في الناس أن لا يتكلم ، قال : فإن تكلمت ، فتكلم بحق أو اسكت .
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأخذ بلسانه ويقول : هذا أوردني الموارد .
وقال ابن مسعود : والله الذي لا إله إلا هو ، ما على الأرض أحق بطول سجن من اللسان وقال وهب بن منبه : أجمعت الحكماء على أن رأس الحكم الصمت .
وقال شميط بن عجلان : يا ابن آدم ، إنك ما سكت ، فأنت سالم ، فإذا تكلمت ، فخذ حذرك ، إما لك وإما عليك وهذا باب يطول استقصاؤه .
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالكلام بالخير ، والسكوت عما ليس بخير ، وخرج الإمام أحمد وابن حبان من حديث البراء بن عازب أن رجلا قال : يا رسول الله ، علمني عملا يدخلني الجنة ، فذكر الحديث وفيه قال : فأطعم الجائع ، [ ص: 341 ] واسق الظمآن ، وأمر بالمعروف ، وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك ، فكف لسانك إلا من خير .
فليس الكلام مأمورا به على الإطلاق ، ولا السكوت كذلك ، بل لابد من الكلام بالخير والسكوت عن الشر ، وكان السلف كثيرا يمدحون الصمت عن الشر ، وعما لا يعني لشدته على النفس ، وذلك يقع فيه الناس كثيرا ، فكانوا يعالجون أنفسهم ، ويجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم .
قال الفضيل بن عياض : ما حج ولا رباط ولا جهاد أشد من حبس اللسان ، ولو أصبحت يهمك لسانك ، أصبحت في غم شديد ، وقال : سجن اللسان سجن المؤمن ، ولو أصبحت يهمك لسانك ، أصبحت في غم شديد .
وسئل ابن المبارك عن قول لقمان لابنه : إن كان الكلام من فضة ، فإن الصمت من ذهب ، فقال : معناه : لو كان الكلام بطاعة الله من فضة ، فإن الصمت عن معصية الله من ذهب . وهذا يرجع إلى أن الكف عن المعاصي أفضل من عمل الطاعات ، وقد سبق القول في هذا مستوفى .
وتذاكروا عند الأحنف بن قيس ، أيهما أفضل الصمت أو النطق ؟ فقال قوم : الصمت أفضل ، فقال الأحنف : النطق أفضل ، لأن فضل الصمت لا يعدو صاحبه ، والمنطق الحسن ينتفع به من سمعه .
وقال رجل من العلماء عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله : الصامت على علم كالمتكلم على علم ، فقال عمر : إني لأرجو أن يكون المتكلم على علم [ ص: 342 ] أفضلهما يوم القيامة حالا ، وذلك أن منفعته للناس ، وهذا صمته لنفسه ، فقال له : يا أمير المؤمنين وكيف بفتنة النطق ؟ فبكى عمر عند ذلك بكاء شديدا .
ولقد خطب عمر بن عبد العزيز يوما فرق الناس ، وبكوا ، فقطع خطبته ، فقيل له : لو أتممت كلامك رجونا أن ينفع الله به ، فقال عمر : إن القول فتنة والفعل أولى بالمؤمن من القول .
وكنت من مدة طويلة قد رأيت في المنام أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، وسمعته يتكلم في هذه المسألة ، وأظن أني فاوضته فيها وفهمت من كلامه أن التكلم بالخير أفضل من السكوت ، وأظن أنه وقع في أثناء الكلام ذكر سليمان بن عبد الملك ، وأن عمر قال ذلك له ، وقد روي عن سليمان بن عبد الملك أنه قال : الصمت منام العقل ، والنطق يقظته ، ولا يتم حال إلا بحال ، يعني : لابد من الصمت والكلام .
وما أحسن ما قال عبيد الله بن أبي جعفر فقيه أهل مصر في وقته ، وكان أحد الحكماء : إذا كان المرء يحدث في مجلس ، فأعجبه الحديث فليسكت ، وإن كان ساكتا ، فأعجبه السكوت ، فليحدث ، وهذا حسن فإن من كان كذلك ، كان سكوته وحديثه لمخالفة هواه وإعجابه بنفسه ، ومن كان كذلك ، كان جديرا بتوفيق الله إياه وتسديده في نطقه وسكوته ، لأن كلامه وسكوته يكون لله عز وجل .
وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال : ” علامة الطهر أن يكون قلب العبد عندي معلقا ، فإذا كان كذلك ، لم ينسني على حال ، وإذ كان كذلك ، مننت عليه بالاشتغال بي كي لا ينساني ، فإذا نسيني ، حركت قلبه ، فإن تكلم تكلم لي ، وإن سكت ، سكت لي ، فذلك الذي تأتيه المعونة من عندي ” خرجه إبراهيم بن الجنيد .
[ ص: 343 ] وبكل حال ، فالتزام الصمت مطلقا ، واعتقاده قربة إما مطلقا ، أو في بعض العبادات ، كالحج والاعتكاف والصيام منهي عنه وروي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صيام الصمت . وخرج الإسماعيلي من حديث علي قال : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصمت في العكوف ، وفي ” سنن أبي داود ” من حديث علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا صمات يوم إلى الليل . وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لامرأة حجت مصمتة : إن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية وروي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال : صوم الصمت حرام .