أعشق الشتاء، إنّه فصل اكتناز الحياة… هو بعث الروح بعد السكون… لن أتحدث عن زهو الربيع أو دفء الصيف أو حتى وقار الخريف… أتحدث عن مياه تروي عروق الأرض، عن بساط ناصع البياض يعتني بالبراعم، وهدير الرعد وزمجرة الرياح وقرع البرد على زجاج النوافذ كلها سيمفونية كونية تصدح لاسماع النيام… إن حان موعد الاستيقاظ… وكل هذا لا أعشق الشتاء!!
خواطر عن الشتاء
ينبئني شتاء هذا العام أن داخلي… مرتجف برداً… وأن قلبي ميت منذ الخريف… قد ذوى حين ذوت… أول أوراق الشجر… ثم هوى حين هوت… أول قطرة… من المطر… وأن كل ليلة باردة تزيده بعداً… في باطن الحجر.
إذا أتى الشتاء… وحركت رياحه ستائري… أحس يا صديقتي… بحاجة إلى البكاء… على ذراعيك… على دفاتري… إذا أتى الشتاء… وانقطعت عندلة العنادل… وأصبحت… كل العصافير بلا منازل… يبتدئ النزيف في قلبي… وفي أناملي.
سماء ملبدة بالغيوم وذاذ أمطار يغسل الوجوه… حركة الطرق مستقرة… تدب الشوارع بالناس… فلا يوقفهم قليل من أمطار عن قضاء حوائجهم… لكن منهم من تقلقه هذه الأجواء ومنهم من تجده فرحاً سعيداً نشيطا في هذه الأوقات… لكنهم على يقين بأنه يوم من أيام ليل الشتاء.
آه ما أكأب الشتاء لياليه… وأيامه وما أقساه… حين أخلو لنار موقدي الخامد… والقلب مغرق في أساه… لست أصغي إلّا إلى ضجة الإعصار… بين النخيل والصفصاف.
تنهمر الأمطار بغزارة… ارتبكت الشوارع… أقفلت المتاجر… الكل مسرعاً باحثاً عمّا يحميه من ما المطر… وها هم الأطفال هاربين لبيوتهم احتماءً من ماء المطر… غلقت الأبواب وأحكم إغلاق النوافذ.
أتذكر حبّك الشتائي… وأتوسّل إلى الأمطار… أن تمطر في بلادٍ أخرى… وأتوسّل إلى الثلج… أن يتساقط في مدنٍ أخرى… لأنني لا أعرف… كيف سأقابل الشتاء بعدك.
سيأتي الشتاء… ويلفظ الكون أنفاسه المتسربله بأحلام… وتمسح الشمس بكل لطف على جبين الأرض، وتخفض اشتعالها
سيأتي الشتاء… محملاً باللقاءات… والصّباحات البيضاء…
سيأتي الشتاء… وأكون برفقه صديقاتي… سنحتّسي القهوة، ونتحدث عن أشياء لا تليق إلّا بنا… سنضحك حتى البكاء.
في شتاء ماض ٍ كنا معاً، قبل أن يبتلعنا الزحام انهمرت قطرات المطر على الطريق الرمادي، كأنّ تلك القطرات دموعي، وذاك الطريق وجهي… شعرت ببرد قارص في تلك الأمسية الشتائية التي ابتلعت ريحها صوتي، لكن ثمة صوتاً بعث الدفء إلى قلبي إذ احتوى غربتي وضياع خطواتنا بين آلاف الخطوات… كان ذاك صوت فيروز.
ما زالت الحياة مستمرة ومازال، الأمل، موجوداً… ما زالت، تلك القطرات، تنهمر… وتطرق نافذتك بلطف… فتذهب، لتتأملها عن قرب… وتقف أمام النافذة… تراقب، جمال المطر فترتسم عليك… الابتسامة… وتنسى، همومك… ولو للحظات بسيطة… وستشعر، بالحنين إلى كل شيء… إلى، طفولتك وإلى تلك، السنوات التي، مضت، من عمرك… ستحن إلى، قلوب إفتقدتها وأحاسيس نسيتها… ستغمض عينك… وتسترجع شريط… أحلامك… بحب… ستنسى، كل، ما بقلبك… من، نقاط، سوداء… عندما ترى، نقاء المطر… تذكّر كل، صفاتك، الجميلة… التي نسيتها… بفعل.
في الشتاء… يتساقط المطر فيغسل أحقاد الصدور وسواد القلوب.
في الشتاء… ترعد السماء فتذكر كل طاغٍ بقدرة الجبار.
في الشتاء… يدرك كل قاسٍ أن البرودة … قاسية جداً !
أنا أعشق الشتاء دون الصيف…
أعشق الشتاء… لأنّه عندما يسقط المطر تزال الأصباغ عن الوجوه فيعود كل شيء لأصله دون خداع أو تصنّع !
أعشق الشتاء… لأنّ المطر دائماً يشعرني بالطمأنينة فهناك رب لن يضيّعنا !
أعشق الشتاء… لأنّ دفء مشاعر تلك الصديقة ينتقل إلى كفيّ عند مصافحتها فيدفئني !
أعشق الشتاء… لأنّ تلك القوة التي تجعلك تتخلص من أغطيتك الدافئة في جنح الليل لتتحمل برودة المياه – تشعرني بدفء حب الله !
أعشق الشتاء… لأنّ احتساء شرابٍ دافئ في ليلة صقيع وسط أناس يحبوك وتحبهم كافٍ لأن يملأ الأرض دفئاً !
أعشق الشتاء… لأنّه دائماً يذكرني بأنّ من فقد الله وفقد الحب… مسكين !
أعشق الشتاء… لأنّ فيه فقط أستمتع بجمال البحر وجمال مدينتي بعد نزوح (المصيّفين)!
يا بياض الثلج يا طهر السحاب… يا عيون الطير يا عنق الظبي… يا حروف الحب في وسط الكتاب… يا كتاب ما تعدا مكتبي… يا سؤال ٍ ما لقيناله جواب… يا جواب ٍ كل ماله يصعبي… يا سعادة تمحي أيام العذاب… يا عذاب ٍ له عيوني تطربي… يا غدير الشوق بعيون السراب… يا سراب ٍ من يضمه يشربي… يا حضورٍ يملي الدنيا غياب… يا غياب ٍ يسبي افكاري سبي… يا حبيبي جاك مرسول العتاب… من خفوقٍ عاف كل أهل العبي… غيبتك بكت عيونٍ ما تهاب… من قريب القوم ولا الاجنبي.
عجبا لقلبٍ من بياضك لونه… لكنّه بالثلج لا يتجمّد… إحساسه برد السعادة واللظى… شوق لحسنك بالجوى يتوقّد… ينساب من ضرع الغمام كأنه… لبن. ويحلبه السحاب الأسود… والأرض بعد فطامها عادت إلى… صدر الشتاء صغيرةً تتودّد… تلقاه في فرحٍ. وليس كزائرٍ… بل عاشقٍ في حضنها يتوسّد… فتذيبه نار الحنين وتزدهي… أرض المحبة بالثلوج وتسعد… (من غير طعمٍ) ترتوي أشجارها… وثمارها بمذاقه تتعدّد…
هذا هو الثلج من عليائه نزلا… لولا تواضع هذا الثلج ما هطلا… وهاهي الأرض في أبهى مفاتنها… تزينت كعروسٍ وارتدت حللاً… والطير يمرح في الأجواء مبتهجاً… وقام يشدو بهذا العرس محتفلاً… وكلّ غصنٍ تثنّى خصرة طرباً… من نشوة الرقص حتّى خلته ثملاً… وإن نظرت إلى الأشجار تحسبها… عرائساً ما رأت عين لها مثلاً… وحيث تنظر فالآفاق قد لبست… ثوب النّقاء، ولن ترضى له بدلاً… حتّى كأنّ سهول الأرض قد عدّلت… عن لونها نحو لونٍ يبعث الأملا… وأينما سرت فالأرجاء من بجعٍ… ولو دنوت قليلاً ربّما جفلاً… والثلج في الارض كالدّيباج منبسط… فكيف تمشي على الدّيباج منتعلاً؟
هذا هو الثلج ما أبهى نصاعته… وما أحيلاه عمّ السّهل والجبلا… والبرد يحلو إذا ما الثلج جاء به… لولاه ماكان هذا البرد محتملاً… وكم سعدنا به، إذ راح محتضناً… وجه الطبيعة، واستحلى به القبلا… وحسبنا أنّنا ذقنا حلاوته… وحيثما حلّ متّعنا به المقلا… وكم لهونا به، والأرض ضاحكة… واللّهو بالثلج لم يترك بنا خجلاً… وكم ضربنا به، والكلّ مبتهج… والضرب، إلاّ بهذا الثلج ما قبلاً.
هذا هو الثلج وافانا بطلعته… وجاء بالخير حتّى أغلق السّبلا… وجاء يحمل ما يحيا الموات به… بشراك يا أرضنا الظّمأى بما حملاً… حتّى القرائح أحياها بمقدمة… فجاء بالوحي والإلهام إذ هطلاً… وكلّ ندفة ثلجٍ لامست هدبي… وددت لو أنّني أسمعتها غزلاً… وكم نودّ لو أنّ الثلج بادلنا… حبّاً بحبٍّ، وبعد اليوم ما رحلا… فليته دام هذا الثلج واغتسلت… به القلوب، ولم يترك بها عللاً.
لا عاشقان… يتذكّران… قلبي على قمر… تحجّر في مكان… ويقال… كان… وأنا على الإسفلت… تحت الريح والأمطار… مطعون الجنان… لا تفتح الأبواب في وجهي… ولا تمتد نحو يدي يدان… عيني على قمر الشتاء…
لم يحن الوقت بعد للفراق… فما زال لدينا وقت… للأخذ والعطاء… فلو امتليء قلبي عتاباً وحزناً… فلن يطغى على قلبي شوقاً وحباً… فإني أغرق بحب ما حولي… كغرق العشب تحت قطرات المطر… فيختفي الغبار من حولها وتغدوا ناعمه براقه… كضوء الشمس وسط غيوم السماء.