من أجمل مقاطع الفيديو التي إنتشرت على اليوتيوب كان مقطعاً للشيخ د، سلمان العودة “مثلك أنا”، كشف فيه بواطن النفس البشرية من حيث إعتقاد كل شخص بأنه الأفضل ونظرته الدونية لمن يعتقد أنه أقل منه حسب معايير حددها هو للأفضلية، وهذه واحدة من أكبر آفات المجتمعات منذ قديم الزمان وإلى الآن وحتى قيام الساعة “العنصرية” وفي اعتقادي أنها السبب الثاني للحروب منذ قديم الزمن بعد الطمع،
ما أكثر تلك المواقف التي نواجه فيها شيئاً من العنصرية سواءً من إنسان أو قبيلة أو دولة، فقلما نجد من لا يعتقد أن وطنه أو قبيلته أو طائفته هي الأفضل فيبدأ بالتمييز في التعامل بين من ينتمون لنفس الوطن أو القبيلة أو الطائفة وبين أولئك الغير منتمين لها إلا من رحم ربي، فتنعكس تلك النظرة في تعاملات البشرفيما بينهم ويبدأ التمييز والازدراء واقتطاع الحقوق واحتقار البعض، في حين أن الطرف الذي تُمارَس عليه تلك العنصرية قد يكون أعلى شأناً عند الله بإيمانه واعتقاده وأخلاقه وداخلية نفسه من ذلك الذي يستعلي عليه ويذيقه مرارة التفرقة وأحياناً الذل،
نجد أن الأبيض يتكبر على الأسود والغني يستعلي على الفقير، وطائفة معينة تزدري طائفة أخرى، وأبناء دين معين يتعالون على معتنقي الأديان الأخرى، مما يؤدي إلى نشوء الصراعات فتقوم الحروب ويسود الدمار وتُحرم الأوطان من استقرارها وأمنها ويتم تدميرها بدل تعميرها الذي خلق الله الإنسان لأجله.
إقرأ أيضا:تقاليد الزواج في فلسطينفي حياتنا اليومية نجد بعضنا يعيّر بعضاً إما لأصله أو فصله أو انتمائه الديني أو العرقي أو مركزه الإجتماعي أو فقره، حتى جنسه ذكراً كان أم أنثى، لدرجة تصل أحياناً إلى إزدراء من شخص لآخر بسبب شكله أو وزنه، كل هذا يحدث ونحن نتناسى قيم ديننا الحنيف الجميلة الداعية إلى الإخاء والمساواة والعدل وأن معيار التفضيل الوحيد الذي وضعه الخالق سبحانه وتعالى لنا هو “التقوى”، والتقوى مقرّها القلب، كما بيّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضع يده الشريفة على قلبه وقال : “التقوى هاهنا”، ما يجعل المعيار الوحيد للتفضيل في يد الخالق عز وجل فهو وحده يعلم ما نقر في القلب ويعلم فروقات التقوى بين عباده، وبهذا لم يترك للبشر مجالاً لتقييم الأفضلية بين شخص وآخر فلا يحق لهم الإستعلاء على بعض أو التعدي على الحقوق،
ومن يتبحر في آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة يجد الكثير منها يحث على المساواة والعدل وينبذ التمييز والتفرقة والعنصرية.
فلا أبلغ من قوله تعالى الذي وضع فيه معيار الأفضلية والتكريم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: 13).
وما أجمل كلمات نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه الإمام أحمد في مسند المكيين وقال الشيخ الألباني حديث صحيح،
إقرأ أيضا:عادات وتقاليد العربوعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن” أخرجه أبو داود في باب الأدب وحسنه الشيخ الألباني،
ولنا في صحابة رسول الله أسوة حسنة، فها هو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يشتكي يهودياً قد سرق درعه إلى القاضي شُرَيح، فيقضي لليهودي لأن سيدنا علي لم يكن لديه سوى شاهدين، مولاه وابنه الحسن، فرد القاضي شهادة سيدنا الحسن وهو سيد شباب أهل الجنة لأنه ابن المدعي، ولا تجوز شهادته، ماجعل اليهودي يعلن إسلامه ويرد الدرع لسيدنا علي رضي الله عنه، لما وجد من عدل الإسلام وعدم تمييزه بين أتباعه وأتباع غيره من الأديان بل وأعطى الحق ليهودي وهو سارق على ابن عم رسول الله وربيبه وزوج ابنته وأحد العشرة المبشرين بالجنة.
كما أننا نجد وثيقة حقوق الإنسان في الإسلام الصادرة عن وقائع المؤتمر الخامس للفكر الإسلامي تؤكد على هذا المعنى في الفقرة الأولى من المادة الأولى منها: “البشر جميعا أسرة واحدة جمعت بينهم العبودية لله والبنوة لآدم، وجميع الناس متساوون في أصل الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف والمسئولية دون تمييز بينهم بسبب العرق أو اللون أو اللغة أو الإقليم أو الجنس أو الإنتماء السياسي أو الوضع الاجتماعي أو غير ذلك من الاعتبارات”، وفي الفقرة الثانية من المادة نفسها: “إن الخلق كلهم عبيد الله، وأن أحبهم إليه أنفعهم لعباده، وأنه لا فضل لأحد منهم على الآخر إلا بالتقوى”.
إقرأ أيضا:عادات وتقاليد كورياوقد أكدت الفقرة الرابعة من المادة الثانية والعشرين من نفس الوثيقة على تحريم إثارة الكراهية القومية أو العنصرية بل وحرمة كل ما من شأنه أن يؤدي إلى التحريض على التمييز العنصري: “لا يجوز إثارة الكراهية القومية أو العنصرية أو كل ما من شأنه أن يؤدي إلى التحريض على التمييز العنصري بكافة أشكاله”(14)
وها نحن نرى يومياً القتل والذبح في بلادنا العربية بعد تخلينا عن مبادئ الإسلام القويمة السليمة لبناء الإنسانية، فلا تخلو دولة عربية ممن يُسجن أو يُقتل بسبب طائفته أو مذهبه أو انتمائه السياسي، وإذا ارتحلنا خارج محيط الدول العربية وجدنا العنصرية تشتدّ ضد المسلمين في شتى بقاع الأرض، فها هو الإفريقي يُقتل في إفريقيا الوسطى فقط لأنه مسلم، وفي بورما يُحرق الإنسان وتُقطّع أوصاله ويُشنق الأطفال فقط لأنهم مسلمون، حتى في عقر دار ما يسمونها “الديمقراطية” أمريكا الإنسان يُحبس وتُمارس عليه أشدّ أساليب التعذيب فقط لأنه مسلم، وليس هنا مجال التجول في بقاع الكرة الأرضية لرصد كل أشكال التمييز العنصري والقتل والسجن سواءً كان ضد المسلمين أو غيرهم فقط لإختلافهم في العرق أو الدين أو الطائفة أو اللون وتكفينا الأخبار التي نقرأها ونشاهدها كل يوم وما خفي كان أعظم.
نحن الآن وفي ظل الظروف السائدة والتي تزداد شدّتها في أحوج ما نكون لاستعادة تلك المبادئ لنشر السلام والأمان في بلاد العُرب والعجم وفي شتى أصقاع الأرض، إننا في أشدّ الحاجة لنبذ العنصرية واستعادة إنسانية البشر مهما كان انتماؤهم أو لونهم والالتحام تحت راية واحدة تسود بالحق والعدل والرحمة وإيتاء كل ذي حق حقه،
رغم أن هذا يبدو الآن وكأنه أضغاث أحلام إلا أن الأمل يبقى في المستقبل، حيث إن الحياة لا تبقى على وتيرة واحدة ولا بدّ من التغيير، ورغم كل السواد الحالك حولنا إلا أن هذا يعطي تفاؤلاً لأن الليل لابد أن يتبعه نهار والشدّة ليس بعدها إلا الفرج، ولكن هذا لن يحدث إلا إذا بدأنا بأنفسنا، بتطهيرها من شوائبها التي رانت على قلوبنا وبجلو صدأ أرواحنا بغسلها بمبادئ ديننا الحنيف والعودة إلى أصول عقيدتنا وتمسكنا بديننا الذي لن نجد العزة إلا به، وبديننا سنكون نحن من ينشر الحق والعدل والمساواة في شتى بقاع الأرض.