قصة سيدنا محمد ما بين دعوة إبراهيم وبشرى عيسى

قصة سيدنا محمد ما بين دعوة إبراهيم وبشرى عيسى

كانت النبوة محصورة في بني إسرائيل، وكان آخر من بعث منهم سيدنا عيسى عليه السلام، فيما الجزيرة العربية خالية من أي نبوة، وقد كان لوجود البيت العتيق أثر كبير، إذ توجه سيدنا إبراهيم إلى ربه سائلاً إياه أن يهب أهل تلك البلدة نبياً منهم، فقال{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. (البقرة: 127ـ 128ـ 129).
وقد بشر سيدنا عيسى عليه السلام بدعوة ابراهيم المستجابة فقال:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}، وكان بنوا اسرائيل يترقبون ولادة نبي موعود في هذه الفترة، ورجاؤهم ان يكون منهم، لكن رجاءهم انقطع بما بدأ من انتقال علامات النبوة الى الجزيرة العربية، وكانت دلائل النبوة شاهدة بطهور ما يقرؤونه من نبوءات، لكنهم جحدوا ما عرفوا قال تعالى:
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (البقرة:89).
بين يدي النبوة :
اعتمدت الجزيرة العربية في عيشها على ما تجنيه من تجارة القبائل الوافدة للحج والطواف وترويج الاصنام، وكانت لها قوافل في الصيف والشتاء، الا ان ذلك لم يمنع تلك القبائل من التنافس والتقاتل، خصوصا وان الجزيرة كانت تموج بالظلم ويعتريها الخراب الفكري، وامتهان الانسانية باستعباد البشر، وسيطرة القوي على الضعيف، واستمراء المرأة بقتلها حية، وقد تسلل الشرك الى الجزيرة، .
والذبح لغير الله، والميسر والقمار، وانتقلت تلك العادات عن طريق اسفار بعض رجالات قريش، فعن عبد اللّهِ بن مَسعُودٍ عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
إن أوَّلَ من سيَّبَ السّوَائِبَ وعَبَدَ الأَصنَامَ أبو خُزاعَةَ عَمرُو بن عامِرٍ وأني رَأَيتُهُ يجُرُّ أَمعَاءَهُ في النّارِ) مسند الامام احمد)، كل هذه الاحداث استدعت التجديد على يد النبوة، فكان الصبح الجديد والأمل الباقي بولادة النبي صلى الله عليه وسلم.
إرهاصات البعثة :
ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل في الثاني عشر من شهر ربيعٍ الأول الموافق للحادي والسبعين بعد الخمسمائة للميلاد، ولم تكن طفولته صلى الله عليه وسلم مكفولة بمشاهدة الوالدين، فقد توفي والده وهو في بطن امه، وماتت امه آمنة بنت وهب وهو في السادسة من عمره، فكفله جده عبدالمطلب، وأرضعته أمه ثلاثة أيام ثم عهد جده بإرضاعه إلى امرأة يقال لها حليمة السعدية، وكان من عادة العرب أن يسترضعوا لأولادهم في البوادي؛ يتلمسون من خلال ذلك النشأة السوية والفصاحة في اللسان والصحة في البدن واكتساب الاصيل من الطبع العربي.
وقد صاحبت ولادته بعض المعجزات التي تبين استقبال الكون واحتفاءه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى ابن هشام في السيرة النبوية، قَالَ :
لَمَّا وُلِدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم قَدِمَتْ حَلِيمَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ فِي نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ يَلْتَمِسْنَ الرُّضَعَاءَ بِمَكَّةَ، قَالَتْ حَلِيمَةُ: فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ فَمَا بَقِيَ مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ عُرِضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم ، فَقُلْنَا:
إنَّهُ يَتِيمٌ، وَإِنَمَا يُكْرِمُ الظِّئْرُ، وَيُحْسِنُ إِلَيْهَا الْوَالِدُ، فَقُلْنَا:
مَا عَسَى أَنْ تَفْعَلَ بِنَا أُمُّهُ، أَوْ عَمُّهُ، أَوْ جَدُّهُ، فَكُلُّ صَوَاحِبِي أَخَذَ رَضِيعا، وَمَا أَجِدُ شَيْئا، فَلَّمَا لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ رَجَعْتُ إِلَيْهِ فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: وَاللهِ لَآخُذَنَّ هَذَا الْيَتِيمَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَنَا بِهِ، قَالَتْ :
فَأَخَذْتُهُ، فَأَتَيْتُ بِهِ الرَّحْلَ، فَوَ اللهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ أَتَيْتُ بِهِ الرَّحْلَ فَأَمْسَيْتُ، أَقْبَلَ ثَدْيَايَ بِاللَّبَنِ حَتَّى أَرْوَيْتُهُ، وَأَرْوَيْتُ أَخَاهُ، فَقَامَ أَبُوهُ إِلَى شَارِفِنَا تِلْكَ يَلْتَمِسُهَا، فَإِذَا هِيَ حَافِلٌ فَحَلَبَهَا فَأَرْوَانِي وَرُوِيَ، فَقَالَ : يَا حَلِيمَةُ، تَعْلَمِينَ وَاللهِ لَقَدْ أَصَبْنَا نَسَمَةً مُبَارَكَةً، وَلَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ عَلَيْهَا مَا لَمْ نَتَمَنَّ، فَبِتْنَا بِخَيْرِ لَيْلَةٍ شِبَاعا، وَكُنَا لاَ نَنَامُ لَيْلَنَا مَعَ صِبْيَتِنَا ثُمَّ رَاجِعِينَ إِلَى بِلاَدِنَا أَنَا وَصَوَاحِبِي، فَرَكِبْتُ أَتَانِيَ الْحَمْرَاءَ، فَحَمَلْتُهُ مَعِي، فَوَ الَّذِي نَفْسُ حَلِيمَةَ بِيَدِهِ، لَقَطَعْتُ بِالرَّكْبِ حَتَّى إِنَّ النِّسْوَةَ لَيَقُلْنَ:
أَمْسِكِي عَلَيْنَا، أَهَذِهِ أَتَانُكِ الَّتِي حَرَصْتِ عَلَيْهَا..؟؟
فَقُلْتُ:
نَعَمْ، فَقَالُوا:
إِنَّهَا كَانَتْ أُدْمَتْ حِينَ أَقْبَلْنَا، فَمَا شَأْنُهَا..؟؟
قَالَتْ:
فَقُلْتُ:
وَاللهِ لَقَدْ حَمَلْتُ عَلَيْهَا غُلاَما مُبَارَكا، قَالَتْ: فَخَرَجْنَا فَمَا زَالَ يَزِيدُنَا اللَّهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَيْرا حَتَّى قَدِمْنَا وَالْبِلاَدُ سَنَةً، فَلَقَدْ كَانَ رُعَاتُنَا يَسْرَحُوُنَ، ثُمَّ يُرِيحُونَ، فَتَرُوحُ أَغْنَامُ بَنِي سَعْدٍ جِيَاعا، وَتَرُوحُ غَنَمِي شِبَاعا بِطَانا حُفْلا، فَنَحْلِبُ، وَنَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: مَا شَأْنُ غَنَمِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَغَنَمِ حَلِيمَةَ تَرُوحُ شِبَاعا حُفْلاً، وَتَرُوحُ غَنَمُكُمْ جِيَاعا، وَيْلَكُمُ اسْرَحُوا حَيْثُ تَسْرَحُ رِعَاؤُهُمْ، فَيَسْرَحُونَ مَعَهُمْ فَمَا تَرُوحُ إِلاَّ جِيَاعا كَمَا كَانَتْ، وَتَرْجِعُ غَنَمِي كَمَا كَانَتْ، قَالَتْ: وَكَانَ يَشِبُّ شَبَابا مَا يُشْبِهُ أَحَدا مِنَ الْغِلْمَانِ، يَشِبُّ فِي الْيَومِ شِبَّانَ الْغُلاَمِ فِي الشّهْرِ، وَيَشِبُّ فِي الشَّهْرِ شِبَّانَ السَّنَةِ، فَلَمَّا اسْتَكْمَلَ سَنَتَينِ قَدِمْنَا مَكَّةَ أَنَا وَأَبُوهُ فَقُلْنَا: وَاللهِ لاَ نُفَارِقُهُ أَبَداً.
وبعد سنتين عادت به حليمة إلى أمه، وعمره آنذاك أربع سنوات، فحضنته أمه إلى أن توفيت، وكان له من العمر ست سنين، فكفله جده عبدالمطلب سنتين ثم توفي، فأوصى به إلى ابنه أبا طالب عم النبي – صلى اللهعليه وسلم – فحاطه بعنايته كما يحوط أهله وولده.
محمد في قومه :
كان عليه الصلاة والسلام ذا مكانة في قومه، لما عرف عنه من الصدق والأمانة، حتى لقب بالصادق الأمين، وبرزت له بعض الانشطة الانسانية والاصلاحية، فقد اشترك بحلف الفضول وهو حلف تداعت إليه قبائل من قريش، فاجتمعوا في دار عبدالله بن جدعان التيمي لسنه وشرفه، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه.
وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وشهد هذا الحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعد أن أكرمه الله بالرسالة:
لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت (سنن البيهقي الكبرى).
ومن أنشطته عليه وسلم الإصلاحية في قومه ما كان من شأن بناء البيت، ورفع الحجر الاسود الذي تنافست على رفعه كل القبائل، واشهروا السيوف للقتال، واستمر النزاع أربع ليال أو خمسا، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد، فارتضوه.
وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه هتفوا:
هذا الأمين رضيناه، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، طلب رداء، فوضع الحجر وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعاً بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه، وكان هذا حلاً حصيفاً رضي به القوم.
وكذا كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وسنتعرف إلى محطات مهمة من حياته في الجزء التالي بإذن الله تعالى.

إغلاق
error: Content is protected !!