الجن و عقل الأنسان

الجن و عقل الأنسان

المقدمة

البشر مخلوقات لا تتوقف عن البحث عن معاني الحياة وتجاربها و كل ما حولها في هذا الكون، و احد هذه الامور هو مفهوم الجن. آن التطرق الى اي موضوع بصدد الجن قد يولد حرجاً عند الكثير من الناس، و من الصعب مناقشته بصورة علمية تحليلية سواء كان ذلك من زاوية فكرية أو دينية أو تاريخية. في هذا المقال سأتطرق الى موضوع الجن من زاوية صحة نفسية طبية دون التطرق بعمق الى البعد الاجتماعي أو الديني لهذه المسألة للفرد المسلم و غير المسلم، العربي وغير العربي.

ان مسألة الجن أو ما يشابها شائعة في كل الاديان السماوية و غير السماوية، غير ان ارتباطها بالفكر الاسلامي الديني اصبح ذات شهرة عالمية في العشرين السنة الماضية مع ولادة صراع الحضارات عالمياً (1). أصبح استعمال التعبير شائعاً في اللغات اللاتينية عند التطرق أحياناً الى معتقدات الدين الإسلامي، و السبب في ذلك لغوي أكثر مما هو علمي حيث ان مسالة ما يشابه الجن ليست بغير الشائعة في كافة المجتمعات الغربية على اختلاف درجات تطورها. عند الحديث عن الجن فان المفهوم هو انهم كائنات موجودة في مكان ما من الكون و ربما ضمن الكائنات الحية الموجودة على كوكب الارض. العقيدة الدينية تتحدث بان الملائكة هم من الجن و كذلك الشيطان أو إبليس الذي هو مصدر الشر ، و بما الاخير هو عامل محرك و مؤثر على أفعال الانسان اليومية، فان الفرد يمكن ان يستنتج بان الجن في تفاعل مستمر مع الانسان. كذلك فان فلسفة الجن عند عامة الناس مرتبطة دوماً بسوء الحظ، المرض، و الكوارث التي تحل باي انسان، و قلما ترى انسان يتحدث بان الجن هم مصدر خير و حسن الحظ. على العكس من ذلك فان الانسان بطبيعته يعلل كل ما هو ايجابي بذاته و عمله و كفاحه، و يعلل كل ما هو سلبي بالحسد و سوء الحظ و الجن.

ألجن اسلامياً و علمياً

أما في العقيدة الاسلامية فان موقف العامة و الخاصة من الناس يتلخص بان هناك سورة قرانيه كريمة تتطرق الى هذا الموضوع. دون ذلك، ليس هناك أحاديث أو روايات يمكن الاستناد عليها تاريخياً أو فكريا للتعمق في هذا الموضوع. آما من الناحية الفكرية و والحضارية فان مناقشة هذا الموضوع يولد حرجاً لدى الكثير و على ضوء ذلك يفضل الكثير من الناس عدم الخوض فيه.

ولكن هناك قاعدة فقهية يستند اليها آهل الاسلام من السنة و الشيعة مرجعها الامام الشافعي (2) تتلخص بان كل من يدعي اتصالاً بالجن لا يمكن ان تقبل شهادته. آن هذه القاعدة الفقهية و التي عمرها اكثر من الف عام وضعت حداً واضحاً و فاصلاً بين الدجل و الحقيقة في الحياة العامة بما يتعلق بموضوع الجن. لكن رغم تلك القاعدة الفقهية، ترى الكثير من المسلمين لا دراية لهم بها، و لا يزال الكثير منهم يتصور بان التطرق الي الجن باي مقدار من السلبية يعتبر انتقادا الى الشريعة الاسلامية و المعتقدات الدينية السماوية. أما الاغرب من ذلك ترى البعض من رجال الدين يجهل تلك القاعدة لأسباب يصعب فهمها.

أما من الزاوية العلمية فان الانسان يعيش في عالم يوفر له ما لا عد له او حصر من المنبهات و يستقبل المنبه بعد الاخر يومياً . بعد ذلك يلجأ الانسان لعمل ما يسمى بتمثيل عقلي لهذا المنبه او الفكرة. بعد استقرار هذا التمثيل العقلي فان الفرد يتفاعل مع محيطه بين الحين و الاخر استناداً الى هذا التمثيل العقلي. أي أن العقل البشري يشبه الى حد كبير جهاز كمبيوتر هائل له امكانية خزن معلومات اكبر بكثير من أي جهاز في العالم. يتم خزن البرامج و المعلومات في هذا الجهاز و بالطبع أداء الكمبيوتر يعتمد على ثلاثة عوامل على الاقل:

نوعية البرامج المخزونة Programs.

سرعة الجهاز او معالج الجهاز Processor.

درجة ذاكرة الوصول العشوائي RAM Memory.

لتوضيح هذا المفهوم يمكن أيحاز اعلاه كما يلي لتفاعل العقل البشري بثلاثة مراحل:

مرحلة الاستقبال Reception.

مرحلة التمثيل Representation

مرحلة التفاعل Reaction

لتطبيق هذا المفهوم على منطق الجن فان مرحلة الاستقبال تبدأ بالتعليم الديني سواء كان في أروقة التعليم او البيت. يتميز هذا المنطق بغياب الادلة العملية التي يمكن للإنسان الشعور بها و لكنها ذات زخم قوي و مشحونة بالرهبة و الخوف. بحكم الظروف الاجتماعية و الفكرية المتاحة للفرد فان تمثيل منطق الجن في العقل البشري يختلف بين انسان و اخر. يتبع ذلك مرحلة التفاعل للإنسان و كذلك فان استعمال هذا المنطق في الحياة العامة يختلف بين انسان و اخر.

ألجن و الاعلام العربي الحديث

لا يخلو الاعلام العربي الحديث، الثقافي و الترفيهي، من الاشارة الى موضوع الجن بين الحين و الاخر. بثت قناة العربية قبل عدة سنوات، على سبيل المثال، برنامجاً حول صبي مصاب بالصرع يعالجه دجال بالضرب المبرح بالعصا لطرد الجن منه. الحقيقة ان هذا المنطق ليس من اكتشاف الدجالين من أهل الاسلام في العصر الحديث و انما هي فكرة كانت شائعة في العصور الوسطى و اختفت مع التطور العلمي و اكتشاف اسباب الصرع و طرق علاجه. كذلك ترى بان الغلاة من أعداء المسلمين في القرن الثامن عشر و التاسع عشر تمسكوا بفكرة بان محمد(ص) كان مصاباً بالصرع و يزوره الشيطان او الجن لإرشاده. تمر الايام و لا يزال هناك بعض الغلاة ينشرون هذه الفكرة.

على المحيط الاعلامي العربي بثت احد القنوات العربية برنامجاً لرجل لديه القابلية لمعرفة الاسم الاول لوالدة أي مشاهد موحياً للناس بان المقدرة التي في حوزته خارج قابلية البشر. لم يتوقف هذا الدجال عن اصدار فتواه بان تلك القابلية أكتسبها عن طريق صلاة ركعتين كل ليلة و بعدها أكتسب تلك القدرة عن طريق اتصالاته او بالأحرى عن طريق اتصاله بالجن.

آما الاعلام الترفيهي، فالإشارة الى الجن فيه في مسلسلات رمضانية او غير رمضانية شائع جداً، و يعكس شيوع الدجل حول مفهوم الحن في السلوك الاجتماعي. تم عرض مسلسل تحت اسم ابواب الخوف في عام ٢٠١١ كان برمته حول موضوع الجن وبصورة مرعبة و جادة في عين الوقت. بالطبع لا أحد يمكن أن ينكر بان سيناريو المسلسل و إخراجه فضلاً عن أداء الفنانين كان على درجة فنية لا تخلوا من الرقي على أقل تقدير. بالطبع فان مثل هذا الاداء الفني يرسل منبهاً قوياً لأنسان يشاهده و يتم خزنة و تمثيله عقلياً على درجة من القوة اكثر بكثير من قراءة أي مقال أو كتاب حول هذا الموضوع، أو حتى تلاوة آية قرآنية كريمة. السبب في ذلك بان هناك منبه بصري و سمعي مصحوباً بمشاعر خوف. كل ذلك يساعد عل تمثيل أقوى للفكرة.

يكثر العامة من الناس استشارة من يدعون اتصالهم بالجن لقضاء حاجاتهم النفسية و تجاوز عقدهم الاجتماعية و العائلية. آن مثل هذا الفعل ليس حصراً على المسلمين أو العرب انما تراها شائعاً في أنحاد المعمورة، و تعكس سعي الفرد التمسك بأي أمل من أجل حل مشاكلهم، وكذلك له علاقة مباشرة بالمستوى الحضاري للفرد . ترى هناك من لهم شهرة يمكن وصفها بانها شبه عالمية من الدجالين الناطقين باللغة العربية، تتم استشارتهم من قبل كافة الطبقات الاجتماعية في لندن، حيث يمارسون مهنتهم بدون حرج او قيد. أما الاعجب من ذلك ان ترى شهرتهم الاعلامية على صفحات الصحف العربية والتي يتم طبع الكثير منها في لندن ، وهذا ما يثير علامات استفهام عدة.

 

الجن في اعراض الامراض النفسية

يمكن تصنيف ظاهرة الجن في أعراض الامراض النفسية كفكرة أو أحساس.

تصنف اي فكرة من زاوية طبية نفسية الى أربعة درجات:

فكرة طبيعية Idea

فكرة وسواسية obsession

فكرة بالغة القيمةOvervalued idea

فكرة وهميةDelusion

آلفكرة الطبيعية لا تتعارض مع مشاعر الفرد ولا تؤثر على سلوكه بطريقة أو أخرى. على ضوء ذلك ترى بان الانسان المسلم و غير المسلم ينظر الى فكرة الجن كجزء من الفكر الديني أو العقيدة، و البعض الاخر يعتبرها أسطورة تاريخية ولدت من جراء صراع الانسان مع الطبيعة على مدى الالاف من السنين.

آما الفكرة الوسواسية فهي شديدة الزخم، يدرك الفرد سخافتها، تتعارض مع قيمه الذاتية، و يحاول مقاومتها. آما الفكرة البالغة القيمة فهي تشغل مساحة واسعة من تفكير الفرد ولكنها خاضعة للنقاش و الجدال. آما الفكرة الوهمية فهي فكرة غريبة في أطارها و محتواها، تتعارض مع الأفكار المألوفة عند الجزء الاكبر من الناس، تشغل مساحة واسعة للغاية منتفكير الفرد، وتؤثر سلبياً على سلوك الفرد و حياته.

 

الجن كفكرة وسواسية

ان مرض الوسواس القهري شائع الى حد ما. قبل ربع قرن من الزمان كان يصنف ضمن الامراض النفسية النادرة في أنتشارها، و لكن في العقد الاخير من الالفية الثانية تبين بان ألمرض أكثر شيوعاً و ان الكثير من الحالات تتحسن تلقائياً و تدريجياً خلال عامين. تنطبق القاعدة الاخيرة على النساء دون الرجال، و تظهر في قطبين عندهن. القطب الاول في نهاية سنوات المراهقة و القطب الثاني في نهاية العقد الثالث من العمر. أما عند الرجال فهو أكثر قوة و قد يصاحبه ظهور أعراض سلبية تشل من قدرة الانسان على الدراسة و العمل و الاختلاط الاجتماعي. أن أسوأ حالات الوسواس القهري يمكن التنبؤ بها بوجود ما يلي:

ألذكور.

البحث المستمر للمريض في محيطه عن التناظر.

بدأ الحالة في عمر مبكر.

يصاحب ظهور الافكار الو سواسية ظاهرتين:

١ كثرة الشك.

٢ كثرة اللجوء الى الطقوس في الحياة اليومية.

يمكن توضيح هذه الظاهرة من خلال طرح الحالات المرضية التالية. أمرأه بريطانية في نهاية العشرين من العمر، و فيمرحلة التدريب و الاعداد للعمل كراهبة في الكنيسة البروتستانتية، استشارت العيادة الخارجية تشكو من صور ذهنيةبشعة عند الصلاة و ذكر السيد المسيح(ْع) أثناء الصلاة. تزامن ظهور هذه الأعراض مع زيادة ساعات العمل وفشل علاقاتاجتماعية. كذلك اشتكت من كثرة شكها بعدم أتقان طقوس الصلاة و أعادتها أكثر من مرة بدون جدوى. أما الحالة الثانيةفهي تتعلق برجل بريطاني أعتنق الاسلام، في نهاية العشرين من العمر، أستشار العيادة الخارجية شاكياً تكرار الوضوء والشك في عدد ركعات الصلاة حتى تجاوز ذلك أعادة الصلاة عشرات المرات كل يوم.

يميل الكثير من مديري المراكز الدينية أو الجوامع الاسلامية بكثرة الحديث عن الجن لتفسير حالات نفسية متعددة وأحدهما الوسواس القهري. هنالك قاعدة فقهية يمكن تلخيصها بان كثرة الشك من الشيطان مما توحي الى الفرد بان الشيطان او الجن له علاقة ربما تكون مباشرة بتصرفات الانسان. رغم ذلك ترى بان هناك قاعدة فقهية أخرى قلما يصرح بهارجال الدين وهي ان لا شك لكثير الشك. فرغم ان القاعدة الاولى تودي الي الافراط في ممارسة السلوك القهري و تدهور  الصحة النفسية للفرد، فان القاعدة الثانية قد تكون شفائية.

 

الجن كفكرة بالغة القيمة

هذه المرحلة من التفكير أكثرها تحدياً و تستعدي التمعن في الاصل الحضاري للفرد، فطالما ترى في الغرب ان الفرد العربياو المنحدر من اصول اسلامية قد يكثر من الحديث في هذه الامور. في هذه المرحلة من التفكير، ترى ان الفرد يتطرق الى موضوع الجن و لكنه وان كان لا يتقبل الرأي الاخر لكنه قلما يلجأ الى تسفيه من لا يقبل برأيه.

أن مسألة الجن كفكرة بالغة الاهمية شائعة في الكثير من البلاد العربية، و أحياناً لا صلة بها بالمستوى الثقافي آوالاقتصادي للفرد. و لكن تمسك الانسان بهذه الفكرة قد يلقي الويل على الناس المقربين له. كنت الى حد قريب اتصور بان الحديث عن تصرفات بعض البشر حول الجن لا يخلو من الغلو و الغرض منه اشاعة بعض الاثارة في الحديث، و لكن مع الوقت تواجهت بتصرفات البعض ممن يجبر زوجته على ارتداء الحجاب داخل بيتها لان الجن في كل مكان و عيونهم البصرية لا تقل حدة او شهوة من الانسان الاعتيادي.

أن علاج الاشخاص ذو افكار بالغة القيمة لا جدوى فيه طبياً او نفسياً. اما تأثير تصرفاتهم عل محيطهم العملي و الاجتماعي فهو يخضع لأعراف مدنية و اجتماعية و قانونية قد توفر او لا توفر الحماية لمن يعيش حولهم.

الجن كفكرة وهامية

في هذه المرحلة تصبح مسألة الجن فكرة لا تقبل النقاش و تشغل مساحة كبيرة من تفكير الفرد وممارساته، و تؤثر سلبياً عليه و على من حوله. متى ما كانت هذه الفكرة جزأ من أعراض مرضية أخرى يميل الاعتقاد بتشخيص مرض الشيزوفرانيا،و ان كانت تلك هي العلامة المرضية بمفردها يتم تشخيص الاضطراب الوهامي Delusional disorder. على عكس الشيزوفرانيا فان المصاب بالاضطراب الوهامي قلما يقبل اي نوع من العلاج، و حتى ان تناول العلاج فالاستجابة له كثيرا ماتكون ضعيفة على أفضل تقدير.

استنتاجات

أن مفهوم الجن عالمي و شائع في جمع الملل و الطوائف و الاديان. ان هذا المفهوم شديد الارتباط بالدين الاسلامي في يومنا هذا، و طالما يتم الاستناد عليه على انه احد علامات تخلف المسلمين حضارياً رغم ان ليس هناك دين سماوي او غير سماوي يخلوا منه. السبب في ذلك اجتماعيا و سياسياً الى درجة ما، و بسبب الاستقطاب الحاصل لموقع الدين الاسلامي حضارياً في العصر الحديث.

غير ان هناك حقيقة لا تقبل الشك بان هناك ممارسات اجتماعية شائعة تدور حول مسالة الجن في العالم العربي والاسلامي عموماً. لا تقتصر هذه الممارسات التي تتصف بالدجل على رجال الدين، بل هي ربما أكثر شيوعاً في رجال ونساء لا يدعون الاسراف في الدين أو الاستناد عليه.

هناك قاعدة نفسية و هي ان كلام الانسان و حديثه هو النافذة التي من خلالها يمكننا التعرف على طبيعة ذلك الانسان. على ضوء ذلك فان كثرة التطرق الى هذا الموضوع و إعطائه أهمية هي أكثر مما يستحق يسلط اضواء كاشفة على جهل ثقافي، غلو في الممارسات الدينية، تحايل و دجل في الممارسات، امراض نفسية، و علل ذهانيه.

أن العالم العربي يمر بفترة حرجة في تاريخه الحديث و لا شك ان ربيعه السياسي سيتبعه ربيع ثقافي عاجلاً او آجلاً. هناك الكثير من المفاهيم التي يجب أعادة صياغتها بصورة تتلاءم مع التطور الثقافي و ليس بالضرورة القضاء عليها كلياً. أحد هذه المفاهيم التي تحتاج الى احتوائها في أطار جديد هي الجن. يحتاج هذا المفهوم الى أطار فلسفي و رمزي يضمن عدم انتشار الدجل و التجارة فيه مما يساعد الانسان الى المضي قدماً في كفاحه و مواجهة تحديات الحياة.

تتحمل المؤسسة الدينية بعض المسؤولية في التوجيه الاجتماعي لكافة طبقات الشعب و منع الممارسات الاجتماعية التي تستند على فلسفة دينية. ربما هنالك حاجة الى مراجعة عامة للفكر الديني و صياغة بعض المعتقدات بصورة عصرية.

في نهاية المطاف أذكر الجميع بفلسفة الامام الشافعي حول مسألة الجن و أدعاء الانسان الاتصال به، فذلك الامر خديعة بوضوح و بساطة.

إغلاق
error: Content is protected !!