كيف نبحث وكيف نكتب الحقيقة

كيف نبحث وكيف نكتب الحقيقة

بداية عملية البحث تحدث عندما يبدأ الانسان مشوار حياته ويقضي العمر في البحث. يبحث عن العواطف والارزاق والمعنى لحياته وكل ذلك يمكن تلخيصه بالبحث عن الحقيقة.

متى ما وجد الانسان الحقيقة ينقلها لمن حوله ومنذ القدم يكتبها لان الكتابة تحفظ الحقيقة.

من هذا المنطلق يجب ان نستوعب لماذا يكتب الأكثرية ويتم نشره، ولماذا يحرص المجتمع على تعليم الأجيال طرق البحث عن الحقيقة والالتزام بها والحفاظ عليها. الحقيقة هي الحقيقة ولا يمكن قياسها كما نقيس درجة حرارة الجو.

البحث العلمي في كافة مجالات الحياة ضرورة للإنسان والمجتمع الذي يعيش فيه والوطن الذي ينتمي اليه بل وحتى لجميع البشر مهما كان دينه وعرقه وانتسابه ومن لم يكن هو الأخ في الدين فهو الأخ في الخليقة. من هذا المنطلق يفهم الأنسان ضرورة البحث العلمي مهما تعددت الاسباب الشخصية والطموحات الفردية، ولا توجد حدود جغرافية تفصل البشر في عملية البحث منذ قديم الزمان.

لا يقتصر الحديث عن البحث العلمي علوم الفيزياء والاحياء والكيمياء وانما يشمل ذلك كافة العلوم الانسانية ايضاً Humanities والقواعد المستعملة في البحث والدراسة ومن بعد ذلك النشر والكتابة لا تختلف تماماً بين عالم الذرة وعالم الاجتماع.

كتابة ما يبحث فيه الانسان يخضع لقواعد عامة من اهمها توصيل الطريقة المستعملة في البحث والنتائج ومناقشتها على خلفية ما بحث فيه الاخرون وما توصلوا اليه. يتم توصيل افكار الباحث الى الاخرين عن طريق لغة واضحة خالية من استعمال مصطلحات غامضة وتفادي استعمال النشر لأثبات بلاغته في الحديث والكتابة والا تحول ما يكتبه الى ملحمة لغوية لا يستوعبها الا القليل ولا تعكس الا محاولة الكاتب زخرفة بحث علمي فشل في الخوض فيه.

ولكن البحث العلمي عملية شاقة تتطلب بذل الجهد والامانة المطلقة في الاداء. يسامح المجتمع الأنسان الكاذب والغير صادق في شهادته ولكن لا يغفر لمن لا يخلص في بحثه العلمي.

تعليم طرق البحث العلمي

تبدأ عملية تعليم الوسائل المستخدمة في البحث العلمي في مرحلة مبكرة من التعليم تختلف بين حضارة وأخرى ولو تتبعنا تاريخ البشرية لوجدنا ان عملية البحث العلمي بدأت منذ العصر الكلاسيكي الإغريقي.

الخطوة الأولى في طريق البحث العلمي هو تحفيز الانسان امتلاك عقل نقدي Critical Mind منذ عمر مبكر. عملية امتلاك عقل نقدي تبدأ دوماً في مراحل التعليم الابتدائية ويتم ترسيخها عاماً بعد عام وتطويرها مع مراجعة المناهج الدراسية بصورة منتظمة.

يبدأ الانسان الاطلاع على توصل اليه العلم والمعرفة وتم نشره ولكن بدلاً من القبول المطلق بما كتبه الغير عليه ان يطلع عليه ويدرسه بعقل مفتوح Open Mind وبعدها قد يقرر الخوض في هذا المجال والتوسع فيه مع الاطلاع على نتائج متناقضة.

الخطوة الثانية هي تعليم الجيل وسائل البحث العلمي في مراحل التعليم الثانوية وتكون على أشدها في مراحل التعليم الجامعي الأولية. يتم تكليف الطالب سنوياً بكتابة مقالةEssay في موضوع ما وتحت اشراف أحد أساتذة التعليم. هذه العملية تستغرق عدة أشهر ويحرص الطالب خلالها دراسة المصادر بصورة علمية واستعمال عقل مفتوح ونقدي. بعدها يكتب الطالب ما تم الخوض فيه ويصل الى استنتاجات عدة وتوصيات قد تفتح الطريق الى بحث علمي جديد يتوسع فيه الطالب نفسه او غيره في المستقبل. الحقيقة هي ان الكثير من البحوث العلمية تبدأ من هذا الطريق.

عملية كتابة المقال ليست هي عملية نقل ونقش لما كتبه الغير. كذلك فان هذه العملية تتطلب دراسة المصادر الأولية وليس مجرد الاطلاع على ما تم نشره في الكتب.

في نهاية المقال يدون الطالب جميع المصادر التي تم الاطلاع عليها ودراستها، وحين يدون الطالب مصادره فالمتوقع هي انه قرأ واستوعب كل مصدر يشير اليه مباشرة دون الرجوع الى طرف ثالث أشار الى هذا المصدر. بعبارة أخرى إذا دونت المصدر فعليك ان تكون صادقاً بانك قرأته واطلعت عليه والا تم توجيه التهمة اليك بعدم الامانة العلمية.

 

الانتحال Plagiarism

تكليف الطالب بعملية اعداد مقالة امانة علمية وعدم الالتزام يؤدي في مراحل التعليم الجامعية الى توبيخه وادانته بالانتحال Plagiarism. رغم ان هذه التهمة تتعلق بنقل فقرات بالنص من مقالة أخرى ولكن عدم الأمانة باستعمال المصادر يتم تصنيفها كذلك. لا ينتهي تعليم الطالب ولكن يبقى ذلك في سجله ويلاحقه بين الحين والاخر وهذا ما حدث لاحد كبار رجال السياسة الأمريكية حين كشف أحد الموظفين في الجامعة تاريخه الجامعي في ممارسة الانتحال.

الانتحال لا يقتصر على المقالات العلمية وهذه الإيام على قدم وساق في عالم الاعلام السياسي ويتم الكشف عنه بسهولة بسبب عالم الفضاء وخاصة عندما تقرأ مقالا لكاتب ادبي وسياسي وإذا بأسلوب المقال يختلف تماماً عن أسلوبه السابق المألوف. على سبيل المثال وفي عام 2012 ظهر مقالا لكاتب سياسي عربي باللغة الإنكليزية يستعمل مصطلحات لا تتناسب مع مقدرته اللغوية. تم ارسال أكثر من 50 شكوى للجهة الإعلامية العربية عن ممارسة هذا الكاتب المنتسب اليها ممارسته للانتحال ونقله حرفياً لمقالة واسعة الانتشار ولكنها لم ترد على شكاوى القراء.

ولكن ما الذي يحدث هذه الايام؟ 

دخل العالم عصر الاتصال الالكتروني وظهر العدو اللدود للبحث العلمي وهو الراحة والاسترخاء. بدلاً من يسعى الانسان للبحث عما نشره الغير في مجال بحثه يسرع الى استعمال ماكينات البحث المتوفرة في كل بيت ومقهى بدلاً من شق الجهد وزيارة بعض مراكز العلوم والتعليم. هذه الماكينات مثل جوجل وغيرها (ماكينات البحث) اصبحت من اقوى المؤسسات الاقتصادية في العالم واستعمالها يؤدي الى تخفيض الجهد الذي يبذله الأنسان الباحث من اجل الوصول الى هدفه.

وهناك ما يسمى الويكيبيديا Wikipedia التي تنشر مقالات الا يمكن تعدادها وفي كافة مجالات الحياة فحتى الاغنية والفيلم السينمائي ترى مقالات مفصلة عنهما قبل بثهما عبر شاشات العرض السينمائية والمذياع.

هناك كلمة يكثر استعمالها في الغرب وهي Convenience. ترجمة الكلمة الى اللغة العربية تعني مناسب او ملائم ولكن أفضل كلمة لترجمتها عدم بذل جهد لأداء مهمة ولذلك يتم استعمالها لوصف التسوق من متجر قريب فيطلق عليه Convenient Store وهكذا. لذلك يُقال عدم بذل الجهد هي العدو اللدود للبحث العلمي.

انتشر استعمال عدم بذل الجهد في النشر والكتابة مع كثرة استعمال الإشارة الى المقالات عن طريق وضع رابط للإشارة الى مصدر ما في النشر الإلكتروني ورغم ان ذلك حق مشروع ولكنه لا يعكس دوما النقد التحليلي لكاتب المقال. كان الجهد المبذول المعروف في هذا النوع من الكتابة هو وضع هامش وتعليق في الصفحة نفسها او في نهاية المقال ولا تزال هذه الطريقة مستعلمة في الكتابات الإنسانية الراقية والتي تعكس خلفية ثقافية متميزة لكاتب المقال.

اما كاتب المقال العلمي فلا يزال عليه التمسك بتدوين المصادر بصورة علمية متفق عليها في النشر ويبدأ بأسماء الناشرين الباحثين ثم عام النشر وبعدها المجلة والعدد ورقم الصفحات. عملية تدوين المصادر العلمية تظهر بعض الأحيان في الويكيبيديا بصورة تختلف تماماً عن النشر العلمي المألوف. يصل عدم بذل الجهد احيانا ان يتم نقل هذه المصادر حرفياً كما هي مدونة في أسلوب الويكيبيديا وهذه غير مقبول تماماً ولا يوحي بان الكاتب اطلع فعلاً على المصدر.

الخلاصة

١الوضع العلمي والنشر في العالم العربي لا يتناسب مع القدرات البشرية على ارض الواقع. تنشر دولة واحدة في العالم الشرقي ثلاثة اضعاف ما ينشره العالم العربي بأجمعه وهذه كارثة.

٢عملية البحث والنشر هي مهمة وطنية يتم التخطيط لها من اعلى هرم الهيكل التعليمي في الدولة ويتم تنفيذها من قبل الكادر التعليمي.

إغلاق
error: Content is protected !!