مولانا الرومي

مولانا الرومي

دراسة سيرة بعض رجال التاريخ تساعد الفرد على استيعاب ماضية وإدراك حاضره وتسليحه باليقظة الواعية من اجل المضي قدما في حياته بدون تناقض بين هويته الشخصية والدينية والإنسانية. يزدحم عالم الاعلام عبر كوكب الأرض هذه الأيام بالحديث عن الإرهاب الإسلامي وتوجيه أصابع الاتهام الى العقيدة الإسلامية بانها دموية الفكر ووحشية الممارسة.

ولكن إذا توجهت نحو واحدة من جامعات بريطانيا الأربع والعشرين المتميزة وهي جامعة اكسيتر Exeter فسترى ان هناك معهدا لوحده يعني بدراسة شخصية إسلامية هي مولانا جلال الدين محمد بلخي المعروف في جميع انحاء العالم بالرومي. ربما لا تسمع عنه في بلاد العرب كثيرا ولكن تركيا وإيران وأفغانستان وأوزبكستان وطاجكستان تدعي انتسابه لها ولا يجهله طالب علوم إنسانية في الغرب. السبب في ذلك بانه صاحب رسالة الحب والسلام والمساواة الإنسانية.

و اذا كنت تدرس علم النفس و الطب النفسي فلا بد ان يكون لك بعض الإلمام بتعاليمه و اشعاره و قصصه كي تساعد من يستشيرك على ممارسة اليقظة الواعية في حياته. بدأت رسالة السلام و المحبة و الحب عبر الفكر الإسلامي و لاسبيل للبوذية و الهندوسية و غيرها من الديانات ان تتنكر لدور مولانا الرومي في تعاليمها و اقتباسها منه.

رحلة الرومي في الحياة

كان والده من كبار فقهاء الحنفية. ولد في أفغانستان اليوم وشغل والده منصبا قضائيا وتعليميا في سمرقند. قرر الوالد الرحيل عام 1207 م من سمرقند بعد اختلافه مع حاكمها ورحل هو و عائلته نحو إيران وبغداد ودمشق ومكة المكرمة. بعد ذلك توجه نحو تركيا اليوم واستقر في قونيا

كانت تركيا ايامها تعرف ببيزنطة او بلاد الروم ومن هنا كنيته بالرومي. ادار والده المدرسة الفقهية هناك وكان عالما بالمذهب الحنفي والفكر الصوفي. لم يكن هناك ايامها تنقاضا بين الشريعة الإسلامية والفكر الصوفي. استقر الرومي في قونيا وهناك ضريحه.

لا نسمع شيئا عن الرومي في التاريخ قبل لقائه بشمس التبريزي عام 1234 م. كان أحد دراويش الصوفية ايامها كثير الترحال ويعيش متزهدا متصوفاً.

ولدت علاقة روحية لا نستوعبها هذه الأيام بين التبريزي والرومي دامت أكثر من عامين وفتحت اسوار الشعر والابداع فيه. رحل التبريزي فجأة عام 1247 وطلب منه الرومي العودة وعاد ليختفي فجأة بعد مدة قصيرة. تكثر الاشاعات حول اختفاء التبريزي وهناك من يقول بان تلاميذ الرومي قتلوه ولكن جميع الباحثين هذه الأيام لا يقبلون بهذا التفسير. كان التبريزي زاهدا في حياته لا يقوى على البقاء في مكان واحد واستمر في تجواله في ارض الله الواسعة.

ترك التبريزي ببصمات تعاليمه الروحية في شعر و رباعيات الرومي و من اشهر دواوينه هو ديوان الشمس. الكثير من اشعاره تم تأليفها مع انغام الناي و الطب و تم إضافة الحركات الراقصة اليها. وقع في غرام ابنة صائغ اسمه صلاح الدين و تزوجها و مشاعر الحب لزوجته تشعر بها في الكثير من ابيات شهره.

أصبحت قونيا مركزا علميا بفضل والده ومن بعده الرومي نفسه. يفسر الكثير رحلة العائلة من الشرق نحو الغرب باجتياح المغول للدولة الإسلامية ايامها وربما لعبت الهجرة دورها في فكر الرومي وأشعاره وقصصه.

رحل من الدنيا في عام 1273 و شارك في تشييعه جميع الناس و من جميع الطوائف و الأديان من مسيحي و مسلم و غيرهم. لا يزال مرقده مركزاً لزيارة اتباع الصوفية حتى يومنا هذا.

فكر الرومي

لا خلاف بين الخبراء في ان فكر الرومي لم يتأثر الا بمصدرين: القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. كان التقرب لله شعاره الأول والاخير وان العلاقة بين الخالق ومخلوقه هي علاقة حب روحية لا بد للإنسان ان يسعى اليها. بدأ ينظم الشعر ويحتوي ديوانه على أكثر من 3 الاف وخمسمائة قصيدة معدل ابيات كل منها خمسة عشر. كتب الرباعيات واستعملها كما يستعمل البشر الألعاب النارية في ليله ظلام حالك. كانت كل قصيدة وبيت شعر في ديوانه تتجه باتجاه واحد نحو الرحمة والغفران والحب.

لذلك يقول:

لا تسألني كيف اعرف الحب

لا تسال أحدا ليعرف الحب

ولكن اسال الحب ليعرف الحب

ويقول الرومي لاتباعه بان الحب ليس للضعفاء وانما:

الحب هو وصف الحب

الحب ليس للضعفاء ولا للشعوب النائمة

انما الحب للأبطال والعظماء

ثم يوصف لنا ما نعظ به من يقابلنا في الطب النفسي بان عليك ان تمضي قدما وتنتقل من مرحلة الى أخرى وهنا يقول:

الحياة كماء في جدول يجري

قد تراه محدودا مقيدا

ولكنه لا يتوقف عن تجديد نفسه

قصائده عن حب الانسان للإنسان والحب لله وفي الله عز وجل وفي النهاية لا تسعى روح الانسان الا الاتحاد بخالقها.

ولكن كيف كان يكتب؟

كان يستعمل اللغة الرزينة الجميلة البسيطة التي يستوعبها جميع الناس. كتب بالفارسية التي كانت لغة الثقافة ايامها وكتب ايضاً باليونانية والتركية والعربية. كان يستمع اليه الفقير والغني والعالم والجاهل والرجل والمرأة واول من نادى بالمساواة بين الجنسين. انظر ماذا يقول في وصفه لعلاقة الرجل بالمرأة:

يبدأ الحب حين ندرك المساواة في العلاقة

ونسعى الى تحقيقها

عبر الجاذبية نصل للحب

عبر الحب نمتلك التوازن

وقوة الحب حينها تنقل الجبل الى البحر

استمع اليها النصارى والهندوس والبوذيين والمغول. اقتبسوا الكثير منه والكثير منهم اعتنق الإسلام بسبب تعاليمه. لا يزال يقتبس منه الكثير حتى يومنا هذا وحتى رجال الفن والغناء من الذين يكتبون الشعر الغنائي اعترفوا باقتباسهم ا منه وفي مقدمتهم بوب ديلان ومادونا.

وماذا تعلمت منه البشرية؟

تعلمت منه البشرية فن القصة القصيرة. كانت قصصه ولا تزال حديث الناس في انحاء العالم وانظر الى بديع ما كتبه في هذه القصة. يقول الرومي رحمه الله بان ملكاً من ملوك الأرض وقع في حب جارية. سال عنها واكتشف حبها لعبد من عبيد قصره معروفا بوسامته. أدرك الملك بان لا مكان هناك في قلبها لحبه وقرر ان يتخلص من هذا العبد ويتخلص من حبها له.

أصدر أوامره في البحث عن سم لا يقتل العبد بسرعة وانما يقضي على وسامته وشخصيته. بدأ السم يفعل مفعوله في العبد وتغيرت شخصيته وانتهت وسامته وفقدت الجارية حبها له. سعد الملك بهذا الإنجاز ولكن لم يموت الحب في الجارية فحسب وانما قضت أنفاسها قبل ان يصل اليها.

لم يكتفي بذلك وانما ترى في كتبه روايته لقصص القرآن الكريم بأسلوب شيق يقرب معنى الحب والرحمة والمغفرة في حياة الانبياء وفي مقدمتهم كليم الله موسى عليه السلام.

ويختتم رسالته عن الحب فيقول لنا:

قال لي الحب باني شيخ

قال لي الحب باني قائد

قال لي الحب باني مرشد

ولكني لست شيخا ولا قائداً ولا مرشداً

ولكني تحت امرة الحب.

رسالة السلام التي تستوعبها الإنسانية بفضل مولانا الرومي رحمه الله.

إغلاق
error: Content is protected !!